فصل: باب القضاء وما يتعلق به من أركانه وشروطه وجائزاته ومستحباته وغير ذلك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة (نسخة منقحة)



.باب القضاء وما يتعلق به من أركانه وشروطه وجائزاته ومستحباته وغير ذلك:

وهو لغة كما قال أبو منصور الأزهري على وجوه مرجعها إلى انقضاء الشيء وتمامه. اهـ.
القسطلاني فيرد بمعنى الأمر منه. وقضى ربك والعلم منه قضيت لك بكذا أعلمتك، به والإتمام منه فإذا قضيتم الصلاة} (النساء: 103)، والفعل منه فاقض ما أنت قاض، والإرادة منه فإذا قضى أمراً، والموت منه ليقض علينا ربك، والكتابة منه وكان أمراً مقضياً، والفصل منه، وقضى بينهم بالحق، والخلق منه، فقضاهن سبع سموات اه وقال الجوهري: القضاء الحكم وفي التبصرة معنى قولهم قضى القاضي أي ألزم الحق أهله قال تعالى: {فلما قضينا عليه الموت} (سبأ: 14) أي ألزمناه إياه.
وأصل مشروعيته من الكتاب قوله تعالى:
{يا داود إنا جعلناك خليفة} (ص: 26) الآية. وقوله تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} (النساء: 10) وأن احكم بينهم بما أنزل الله} (المائدة: 49) ومن السنة ما خرجه الترمذي وأبو داود عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قاضياً إلى اليمن. وفي الموطأ أنه عليه السلام قال: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع) الحديث. ثُمَّ إنه من العقود الجائزة فلكل منهما الفسخ شرع أم لا كما يفهم من عجز البيت الآتي. فمن شبهه بالجعل والقراض مراده في مطلق الجواز لأنهما يلزمان بالشروع بخلافه هو، وهو من فروض الكفاية حيث تعدد من فيه أهليته وإلاَّ تعين حينئذ ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب، وأجبر عليه وأن يضرب وإلا فله الهرب الخ، وإنما كان فرضاً لأن الإنسان لا يستقل بأمر دنياه فيكون طحاناً خبازاً جزاراً حراثاً مثلاً، وبالضرورة يحصل التشاجر والخصام فاحتيج إلى من يقطع ذلك ولكون القطع المذكور يحصل بواحد أو جماعة كان كفاية ولعظم خطره جاز له الهرب مع عدم الخوف وضياع الحق أي ولا يتعين عليه بتعيين الإمام بخلاف غيره من فروض الكفاية (خ) في الجهاد: وتعين بتعيين الإمام.
وعرفاً قال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين فتخرج ولاية الشرطة والتحكيم وأخواتها والولاية العظمى. اهـ.
فقوله: ولو بتعديل الخ مبالغة في مقدر أي نفوذ حكمه في كل شيء ولو بتعديل إلخ.
وبذلك المقدر تدخل التأجيلات ونحوها لأنها أحكام ينبني عليها من بعده وتخرج ولاية الشرطة وأخواتها لأنها خاصة ببعض الأشياء كالحسبة بأحكام السوق، وكذا يخرج بقوله ثبت عندي كذا لأنه ليس بحكم كما يأتي في البيت بعده. قلت: والظاهر أن مفعول قوله توجب محذوف وأن نفوذ على حذف مضاف ومتعلق أي توجب لموصوفها كونه بصدد نفوذ حكمه، فالصفة إن كانت توجب كونه بصدد نفوذ حكمه في كل شيء فمن قامت به قاض وإن كانت توجب كونه بصدد حكمه فيما حكم فيه فقط فمحكم، فالقاضي من ثبتت له تلك الصفة فصل أو لم يفصل، وبه يسقط قول (خ) لم يظهر لي وجه خروجه قال: لأن المحكم ينفذ حكمه بكل شيء حكم به صواباً مثل القاضي، وإنما يفترقان في الجواز ابتداء.
وقول (ت) إن التحكيم خارج بعموم الإضافة في حكمه أي جميع أحكامه يرد بأن هذا العموم هو المقدر قبل المبالغة وهو شامل للمحكم المذكور لأنه أيضاً تنفذ جميع أحكامه التي حكمها صواباً (خ) ومضى أن حكم صواباً تأمل. وقوله: حكمية أي اعتبارية. وقوله: نفوذ بالذال المعجمة بمعنى المضي واللزوم لا بمعنى التنفيذ بالفعل لتعذره في الجبابرة. وقوله: حكمه أي إلزامه أي توجب لموصوفها لزوم إلزامه، فاللزوم فرع الإلزام والتنفيذ بالفعل أمر زائد على ذلك وخرج بالشرعي غيره فلا يمضي. وقوله: ولو بتعديل أو تجريح الخ، قال (ت) لم يظهر لي وجه المبالغة عليهما بخصوصهما، فإن قيل: لكونه يستند لعلمه فيهما قيل مثلهما تأديب من أساء عليه وضرب خصم لد إلخ.
قلت: إنما قصده على أن يبالغ على جنس ما يستند فيه لعلمه، ويكفيه أن يذكر منه بعض أفراده والمبالغة عليه أولى من الحدود لقوة توهمه وقوله: لا في عموم الخ به خرجت الولاية العظمى لأن نظرها أوقع لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم ولا تفريق الزكاة ولا ترتيب الجيوش ولا قتال البغاة ولا الإقطاعات. ثُمَّ كما يطلق القضاء في الاصطلاح على الصفة المذكورة، كذلك يطلق على الحكم والفصل فيقال: قضاء القاضي حق أو باطل وتقدم عن الجوهري أنه يطلق على ذلك لغة.
قلت: وباعتبار الإطلاق الثاني رسمه القرافي فقال: الحكم إنشاء إلزام أو إطلاق فالإلزام كالحكم بلزوم الصداق أو النفقة أو الشفعة، وقد يكون بعدم الإلزام كالحكم بعدم لزوم ما ذكر، والإطلاق كالحكم بزوال الملك عن أرض زال إحياؤها أو زوال ملك الصائد عن صيد ند الخ، وكذا رسمه ابن رشد باعتبار هذا الإطلاق أيضاً حيث قال: هو الإخبار بحكم شرعي على وجه الإلزام أي إنشاء الإخبار فهو مساوٍ لرسم القرافي إلا أن الحكم في كلام ابن رشد لا يفسره بالإلزام بل بالخطاب أي بخطاب شرعي، والخطاب الشرعي هو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف، ثُمَّ تبين لي أنه يصح تفسيره بإلزام أيضاً أي بإلزام شرعي ألزم الشارع به عباده على وجه إلزامه هو للخصمين أو أحدهما وكل من الرسمين غير مطرد لصدقهما بحكمي الصيد وسائر الخطط الشرعية، فلو قالا إنشاء إلزام يوجب نفوذه في كل شيء ولو بتعديل الخ لسلما من ذلك، والضمير في قولنا يوجب يعود على الإنشاء وفي قولنا نفوذه يعود على الإلزام. ثُمَّ إنه على الإطلاق الثاني تعرض له الأحكام الخمسة ولا إشكال. وكذا على الأول لأن قوله نفوذ حكمه معناه كما مرّ لزوم إلزامه وإلزامه يعرض له ما ذكر وبه يسقط قول من قال: إنما تعرض له باعتبار القبول والطلب لأن القضاء صفة ولا شيء من الصفات بمعروض للأحكام المذكورة، ثُمَّ إن المصنف اكتفى بتعريف القاضي عن تعريف القضاء المبوب له فقال:
نَفِّذٌ بالشِّرْعِ لِلأَحْكَامِ ** لَهُ نِيِابَةٌ عَنِ الإمَامِ

(منفذ) أي هو القاضي المفهوم من القضاء منفذ الخ لأن القضاء على معناه من المصدرية لابد له من شخص يقوم به، ويحتمل أن يريد بالقضاء الوصف أي باب القاضي وعلى كل ففي الكلام استخدام لأنه في الأول أطلق القضاء على معناه المصدري، وأعاد عليه الضمير المقدر قبل قوله منفذ باعتبار الوصف، وفي الثاني أطلقه على الوصف وأعاد عليه الضمير في به باعتبار معناه المصدري و(بالشرع) وهو ما شرعه الله للعباد يتعلق به، وكذا قوله (للأحكام) وأل فيه للاستغراق فتخرج به سائر الخطط لأن أحكامها خاصة ببعض الأشياء كما مر ما عدا الإمامة العظمى أخرجها بقوله: (له) أي القاضي (نيابة عن الإمام) فهو من تمام الحد، والجملة خبر ثان وكأنه قال القاضي هو النائب عن الإمام في تنفيذ جميع الأحكام الشرعية أي إلزامها نفذت بالفعل أم لا، فيؤخذ منه أن القضاء بالمعنى المصدري هو نيابة عن الإمام في تنفيذ الأحكام إلخ، إذ يلزم من تعريف الفرع تعريف الأصل، وأن النائب لا يقوى قوة المنوب عنه فليس له النظر في تجهيز الجيوش وقسم الغنائم ونحو ذلك مما مر وأن للإمام عزله لأنه وكيل عنه وكذا له هو عزل نفسه لأنه من العقود الجائزة شرع أم لا كما في ضيح وابن فرحون وغيرهما. وقوله: للأحكام جمع حكم وهو ما يلزمه القاضي لأحد الخصمين، ثُمَّ إن حكم في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فمحكمة إنشاء، فإذا قضى المالكي مثلاً بلزوم الطلاق في التي علق طلاقها على نكاحها فقضاؤه إنشاء نص خاص وارد من قبله سبحانه في خصوص هذه المرأة المعينة فليس للشافعي أن يفتي فيها بعدم لزوم الطلاق استناداً لدليله العام الشامل لهذه الصورة ولغيرها لأن حكم الحاكم فيها جعله الله تعالى نصاً خاصاً وارداً من قبله رفعاً للخصومات وقطعاً للمشاجرة والقاعدة الأصولية إذا تعارض خاص وعام قدم الخاص. نعم للشافعي أن يفتي ويحكم في غيرها بمقتضى دليله، وكذا لو حكم الشافعي في الصورة المذكورة باستمرار الزوجية بينهما خرجت عن دليل المالكي ولزمه أن يفتي فيها بلزوم النكاح ودوامه وفي غيرها بلزوم الطلاق. وهكذا حكمه في مواطن الخلاف كان داخل المذهب أو خارجه وهو معنى قول (خ) ورفع الخلاف إلخ.
قلت: وهذا في المجتهد أو المقلد الذي معه في مذهب إمامه من النظر ما يرجح به أحد الدليلين على الآخر، وأما غيرهما فمحجر عليه الحكم بغير المشهور أو الراجح أو ما به العمل فحكمه بذلك إخبار وتنفيذ محض. نعم إذا تساوى القولان في الترجيح فحكمه إنشاء رفع للخلاف، وخرج باجتهادية حكم حكمه في مواضع الإجماع فإنه إخبار محض لا إنشاء فيه لتعين الحكم بذلك وثبوته وبقيد التقارب الخ المدرك الضعيف كالشفعة للجار واستسعاء المعتق فالحكم بسقوطهما إخبار محض والحكم بثبوتهما ينقض لضعف المدرك عند القائل به، وبقيد المصلحة الدنيوية العبادات كتحريم السباع وطهارة الأواني والمياه، ونحو ذلك مما اختلف فيه أهل الاجتهاد لا للدنيا بل للآخرة، فهذه تدخلها الفتوى فقط إذ ليس للحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة بخلاف المنازعة في الأملاك والأوقاف والرهون، ونحوها مما اختلف فيها لمصلحة الدنيا، وكذا أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فهو حكم من جهة أنه تنازع بين الفقراء والأغنياء لا أن أخبر عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة ففتوى فقط ثُمَّ لا يتوقف حكمه على قوله حكمت بل إن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة أو سكوته كما لو رفعت إلى حنفي امرأة زوجت نفسها بغير ولي فسكت عنها، فالحكم عند ابن القاسم ليس لمن أتى بعده من مالكي أو غيره النظر في خصوص تلك الحادثة لأن إقراره إياه كالحكم بإجازته. وقال ابن الماجشون: ليس بحكم فإن قال عند رفعها إليه أنا لا أجيز النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخه ففتوى فقط قاله ابن شاس وتبعه غيره. وقال ابن عرفة: الظاهر أنه حكم فليس لغيره نقضه وهو الموافق لما مر لأن قوله: أنا لا أجيز النكاح بغير ولي إخبار عن رأيه ومعتقده، ولا يلزم من ذلك فسخه، وإذا لم يلزم بقي ساكتاً عنه والسكوت تقرير له وهو حكم عند ابن القاسم، واختلف في قوله: ثبت عندي كذا هل هو والحكم بمعنى أو الثبوت غير الحكم وهو الصواب لأنه يوجد بدونه كثبوت هلال رمضان، وطهارة المياه ونجاستها والتحريم بين الزوجين بالرضاع حيث لا تنازع بينهما فيه، ونحو ذلك مما لا تدخله الأحكام وإذا وجد بدون حكم كان أعم منه، والأعم من الشيء غيره ثُمَّ الذي يفهم من الثبوت نهوض الحجة كالبينة ونحوها السالمة من الطعن فمتى وجد ذلك يقول فيه القاضي ثبت عندي كذا، وقد يوجد الحكم أيضاً بدون الثبوت كالحكم بالاجتهاد في قدر التأجيلات ونحوها، فبينهما حينئذ العموم والخصوص من وجه، وأيضاً يفرق بينهما بأن ثبوت الحجة مغاير للكلام النفساني الإنشائي الذي هو الحكم، ولا يخفى أن نهوض الحجة مقدم على الحكم فهو غيره قطعاً. قال القرافي: وقد علمت منه أن قول القاضي أعلم بثبوته أو باستقلاله أو ثبت عندي ونحوه يكون بعد كمال البينة وقبل الإعذار فيها، لأن الأعذار فرع ثبوتها وقبولها فلا يعذر للخصم في شيء لم يثبت عنده، وفعله جعل إذ الإعذار سؤال الحاكم من توجه عليه الحكم هل له ما يسقطه ويمتنع سؤاله قبل الأداء والقبول والثبوت. وقوله في النص السالمة من الطعن يعني في ظنه واعتقاده لأنه يسند لعلمه في ذلك فقول (ت) ولا يكون أي الثبوت إلا بعد كمال البينة والإعذار فيها سهو بل يكون الثبوت فيما لا خصومة فيه بالكلية كما مرّ.
تنبيهات:
الأول: قال القرافي: الفتوى والحكم كلاهما خبر عن الله تعالى، ويجب على السامع اعتقاد ذلك إلا أن الفتوى محض إخبار والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام، وكلاهما يلزم المكلف، فالمفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما وجده عنده واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشئ الأحكام والإلزام وليس بناقل ذلك بل مستنبئه فكأنه قال له: أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي، فكلاهما مطيع لله تعالى ناقل لحكمه غير أن أحدهما منشئ والآخر ناقل. اهـ.
وقوله: ويجب على السامع اعتقاد ذلك إلخ.
من أجل ذلك قال قاض لخصم اتهمه في حكمه لست بمؤمن، فقال وبم كفرتني؟ فقال له قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} إلى آخر قوله: ثُمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً} (النساء: 56) الآية.
الثاني: علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات فحال الفقه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بهما أشق وأخص، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها فيلغي طرديها ويعمل معتبرها قاله ابن عرفة فقوله: وأيضاً فقها الخ، هو بيان لوجه كونهما أخص بعد أن بينه بالمثال وقوله: طرديها أي الأوصاف الطردية التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة، وهذا وجه تخطئة المفتين والقضاة لبعضهم بعضاً، فقد يبني القاضي والمفتي حكمه على الأوصاف الطردية المحتفة بالنازلة ويغفل عن أوصافها المعتبرة، وأصل ما ذكره ابن عرفة لابن عبد السلام. ونصه: وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع علم الفقه ولكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وربما كان بعض الناس عارفاً بفصل الخصام وإن لم يكن له باع في غير ذلك من أبواب الفقه، كما أن علم الفرائض كذلك ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع الفقه، وإنما الغرابة في استعمال كليات الفقه وتطبيقها على جزئيات الوقائع وهو عسير، فتجد الرجل يحفظ كثيراً من العلم ويفهم ويعلم غيره، وإذا سئل عن واقعة ببعض العوام من مسائل الإيمان ونحوها لا يحسن الجواب عنها، وللشيوخ في ذلك حكايات نبه ابن سهل في أول كتابه على بعضها. اهـ.
وبه تعلم أن معنى قوله في ضيح: وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه، لكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه. اهـ.
هو أنه من لا باع له في حفظ مسائل الفقه، لكنه معه من الفطنة ما يدخل به الجزئيات تحت كلياتها بخلاف غيره، فهو وإن كان كثير الحفظ لمسائله لكن ليس معه من تلك الفطنة شيء كما يرشد إليه كلام ابن عبد السلام، ولذلك نقلته برمته. وكثير من الحمقاء اغتر بظاهر كلام ضيح حتى قال: إن القضاء صناعة يحسنه من لا شيء معه من الفقه، وجرى ذلك على ألسنة كثير منهم، واحتجوا بقول المصنف الآتي ويستحب العلم فيه الخ وهو احتجاج ساقط. قال ابن رشد: ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ إنما هو نور يضعه الله حيث شاء، وقد أجبت عن ضيح بما مر قبل الوقوف على كلام ابن عبد السلام والله أعلم.
الثالث: تثبت ولاية القضاء بالشهادة على الإمامة مشافهة أنه ولى فلاناً أو بالاستفاضة وانتشار الخبر أنه ولاه، ومنع بعضهم ثبوتها بكتاب يقرأ عن الإمام إلا أن ينظر الشهود فيما يقرؤه القارئ لجواز أن يقرأ ما ليس في الكتاب وتنعقد بالصريح: كوليتك وقلدتك واستخلفتك واستنبتك وبالكناية: كاعتمدت عليك وعولت عليك ورددت إليك وجعلت إليك وفوضت إليك ووكلت إليك وأسندت إليك وعهدت إليك، ولابد أن يقترن بالكناية ما ينفي عنها الاحتمال مثل: احكم فيما اعتمدت عليك فإن كان المولى بالفتح غائباً فيجوز قبوله على التراخي ويكفي في القبول شروعه، ولا ينبغي له القبول إذا ولاه الأمير الغير العدل ولا تتم توليته، حتى يكون المولِي بالكسر عالماً بشرائط الولاية في المولى بالفتح وإن جهلها وقت العقد لم تصح واستأنف، ولابد أيضاً من تعيين البلد الذي عقدت عليه الولاية فيه وتعيين الخطة من كونها قضاء أو إمارة أو جباية ليعلم على أي نظر عقدت له وإلاَّ فسدت.
الرابع: لا يخفى أن قول الناظم منفذ إلخ.
يتضمن أركان القضاء الخمسة لأن المنفذ يستلزم مقضياً له وعليه وفيه. وقوله: بالشرع هو المقضي به وكيفية القضاء وستأتي مفصلة إن شاء الله.
لطيفة:
نقل الحطاب عن المشذالي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فولِّ القضاء أنفذهما، فجمع العامل بينهما وذكر لهما ما كتب له به فقال له إياس: سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما والقاسم يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به فقال له: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذباً فما عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي فقال له إياس: إنك جئت برجل وأوقفته على شفا جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة فيستغفر الله منها وينجو مما يخاف فقال له العامل: أما إنك إذا فهمتها فأنت لها فاستقضاه. اهـ.
واسْتُحْسِنَتْ في حَقَّهِ الْجَزَالَهْ ** وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَهْ

(واستحسنت): أي استحب (في حقه) أي القاضي (الجزالة) من جزل فهو جزيل أي عاقل أصيل الرأي، وكأنه أراد لازمها الذي هو جودة الفطنة فالمستحب شيء خاص وهو أصالة الرأي وكثرة الفطنة الموجبة للشهرة بها بشرط أن لا تصل إلى حد الدهاء، وإلاَّ فالمطلوب السلامة منها، وأما مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل ومشي الحيل عليه فهو شرط صحة في ولايته داخل في قوله: (وشرطه) أي شروط صحة ولايته (التكليف) أي العقل والبلوغ فلا تنعقد لصبيٍ ولا لفاقد العقل من مجنون ومعتوه، إذ لا يجري عليهم قلم ولا لفاقد تمامه كمغفل لأن التغفل إذا كان مانعاً من الشهادة فأحرى القضاء (والعدالة) وهي تستلزم الإسلام وعدم الفسق، فالكافر لا ولاية له لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} (النساء: 141) والفاسق كذلك لا تصح ولايته ولا ينفذ حكمه وافق الحق أم لا. لأنه لا تقبل شهادته فأحرى قضاؤه وقال أصبغ: تنعقد ولايته ويجب عزله ويمضى من أحكامه ما وافق الحق على المشهور، والجور نوع من الفسق فإذا ثبت جوره في قضية بإقرار ونحوه نقضت أحكامه كلها. ومنه تقديمه للشهادة من يعرف جرحه فلا عذر له في أنه إنما يقدمه خوفاً من موليه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحقيقة إنما يخاف العزل فقط.
فإن قيل: العدالة كما تستلزم الإسلام وعدم الفسق كذلك تستلزم الحرية والتكليف أيضاً، فلو اكتفى الناظم بها وأبدل التكليف بالفطنة وأسقط الحرية الآتية كما فعل خليل حيث قال: أهل القضاء عدل ذكر فطن إلخ.
لكان أحسن وأخصر. قلنا: العدالة عند خليل تستلزم ما ذكر لأنه فسرها في الشهادات بذلك فقال: العدل حر مسلم عاقل بالغ بلا فسق إلخ.
فلذلك حسن منه الاكتفاء في باب القضاء بخلافها عند الناظم فإنما تستلزم الإسلام وعدم الفسق بدليل قوله الآتي:
والعدل من يجتنب الكبائر ** ويتقي في الغالب الصغائر

وَأنْ يَكُونَ ذَكَراً حُرًّا سَلِمْ ** مِنْ فَقْدِ رُؤْيَةٍ وَسَمْعٍ وَكَلِمْ

(وأن يكون ذكراً) فلا تنعقد ولاية المرأة لقوله عليه السلام: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولأن بعض النساء ربما كانت صورتها فتنة.
(حراً) ولو عتيقاً على المشهور. وقال سحنون: لا تصح ولايته لأنه قد يستحي فترد أحكامه، وأما الرقيق ولو بشائبة فلا ولاية له لأنه ممنوع من ولاية نفسه، فكيف لولاية غيره ولأنه أثر كفر. وبقي من شروط الصحة كونه واحداً فلا تصح تولية اثنين على أن لا ينفذ حكم في كل قضية إلا باجتماعهما معاً عليه لاختلاف الأغراض وتعذر الاتفاق غالباً، وذلك يفضي لتعطيل الأحكام، وأما تولية كل منهما على سبيل الاستقلال فجائز، وكذا في قضية واحدة معينة كما في ابن عرفة (خ): وجاز تعدد مستقل وخاص بناحية أو نوع إلخ.
وكونه مجتهداً فلا تصح تولية المقلد مع وجوده، واختلف الأصوليون هل يمكن خلو زمان من الأزمنة عن مجتهد أم لا؟ ولا تصح الدعوى بعدم وجوده إلا من مجتهد إذ القول بانتفائه فرع إدراك مرتبته فإن لم يوجد المجتهد فيستحب تولية أعلم المقلدين، وهو مراد خليل بقوله: مجتهد إن وجد وإلاَّ فأمثل مقلِّد بكسر اللام فحكم بقول مقلَّده بفتحها فكونه أمثل مقلد مستحب لا واجب كما يعطيه كلامه. وكونه غير دافع رشوة لتحصيله فإن دفعها فلا تنعقد ولايته وقضاؤه مردود، ولو وافق الحق وتوفرت فيه شروط القضاء كما في التبصرة، واعتمده الزرقاني وقول الحطاب، والظاهر أنه إذا طلب القضاء فولي لا يجب عزله الخ يعني إذا طلبه بغير رشوة والله أعلم. ثُمَّ إنه إذا انفرد واحد بهذه الشروط تعين عليه (خ): ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب الخ، ابن عرفة: وهذا كله ما لم تكن توليته ملزومة لما لا يحل من تكليفه تقديم ما لا يحل تقديمه للشهادة، وقد شاهدنا من ذلك ما الله أعلم به. اهـ.
يريد إنما يلزمه القبول تعين أم لا إذا كان يعان على الحق وإلا لم يلزمه وظاهر قوله: (سلم. من فقد رؤية وسمع وكلم) أن السلامة من فقد جميعها شرط صحة وليس كذلك، بل المذهب أن السلامة من فقد أحدها شرط في جواز ولايته ابتداء وفي جواز دوامها فتصح ولايته بعد الوقوع وينفذ ما حكم به ويجب عزله كما أفاده خليل بقوله: ونفذ حكم أعمى وأبكم وأصم ووجب عزله إلخ.
قلت: فلو قال على ما مر من أن العدالة تستلزم الحرية والتكليف ما نصه، وشرطه الفطنة والعدالة.
وأن يكون ذكراً وواحداً ** وعالماً مجتهداً إن وجدا

ورؤية سمع كلام إن سلب ** واحد ذي الثلاث فالعزل يجب

لسلم مما ورد عليه هنا، وفي قوله: ويستحب العلم إلخ.
قلت: وقد يجاب عن الأول بأن إحدى الواوين في قوله: وسمع وكلم بمعنى أو والأخرى بمعنى مع أي سالماً من فقد رؤية مع سمع أو كلام أو من فقد سمع مع كلام أي شرط الصحة السلامة من فقد اثنين منها، فإن فقدهما فلا تنعقد ولايته وأحرى أن فقد الثلاثة كما صرح به ابن عبد السلام. وأما فقد واحد منها فشرط في الجواز ابتداء كما مرّ. وبه تعلم أن قول (ت): فتنعقد ولاية فاقدها أي الثلاثة الخ، صوابه فاقد أحدها، وعن الثاني بأن المستحب في قوله:
يُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعْ ** مَعَ كَوْنِهِ الأُصُولَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ

(ويستحب العلم فيه) على حذف مضاف أي يستحب غزارة العلم فيه أي زيادته بأن يكون أمثل مقلد وأفضل مجتهد، أو على حذف الصفة كقوله تعالى: {الآن جئت بالحق} (البقرة: 71) أي البين أي يستحب فيه العلم الموصل للاجتهاد كما في المقدمات، فهو يفيد شرطية العلم في الجملة، وأن المستحب علم خاص وهو ما يتوصل به للاجتهاد. ابن عرفة: ففي صحة تولية المقلد مع وجود المجتهد قولان: لابن زرقون مع ابن رشد، وعياض مع ابن العربي، والمازري، ومع فقده جائز ومع وجوده المجتهد أولى اتفاقاً فيهما. اهـ.
وهذا الحمل وإن كان يقتضي أن المقلد تصح توليته مع وجود المجتهد وهو مرجوح كما مرّ، لكن حمله عليه أولى من بقائه على ظاهره المقتضي لصحة تولية الجاهل المحض مع أنه لا تنعقد له ولاية ولا ينفذ له حكم صادف الحق أم لا شاور أم لا. وما ورد عن ابن حبيب وابن زرقون وغيرهما مما يوهم صحة توليته ليس على ظاهره، بل المراد به عندهم المقلد كما لأبي الحسن وابن ناجي والأبي وغيرهم. وفي المعيار عن اليزناسي أنه لا خلاف في جواز تعقب أي تصفح أحكام المقلد وهو الذي يعبر عنه في كتاب أئمتنا بالجاهل. اهـ.
وفي أول جامع البرزلي بعد أن ذكر حقيقة الاجتهاد وشروط المجتهد ما نصه: والعامي من ليس له ما ذكرنا من آلة الاجتهاد، فالمقلد والجاهل والعامي عندهم ألفاظ مترادفة، وبهذا تعلم أن المراد بالجاهل في قول (خ): أو جاهل لم يشاور الخ المقلد، وأن أحكامه إذا لم يشاور فيها تتعقب أي تتصفح فيرد خطؤها ويمضي غيره، وأن قوله: ورفع الخلاف. وقوله: ولا يتعقب حكم العدل العالم إنما هو في المجتهد ولو في مذهب إمامه، فيدخل نحو ابن رشد واللخمي ومن بعدهم من المتأخرين الذي لهم تصرف في القياسات وإدخال الجزئيات تحت كلياتها، وليس المراد خصوص المجتهد المطلق، وأما المقلد فلا يرفع الخلاف وتتعقب أحكامه ولا يعتبر منها إلا ما وافق المشهور أو الراجح أو ما به العمل كما مرّ.
فإن قيل: الجاهل الحقيقي إذا شاور صار مقلداً وحينئذ فتجوز توليته حيث دخل على المشهورة. قلنا: هو لا يميز بين الحق والباطل ولا بين ما يجب قبوله من أحد الخصمين وما لا، وما يوجب على خصمه حقاً أو جواباً وما لا، وإن كتب له عما سأل عنه لم يفهم مواقع الجواب وما يعرض فيه من الاحتمال بحيث يعيد عنه السؤال ونحو ذلك. فكيف تنعقد ولايته وتنفذ أحكامه ولاسيما مع اختلاف المشاورين عليه إذ الحاكم لا يحكم بقول مشاوره بالفتح تقليداً له كما لابن عبد البر حتى يتبين له الحق بالدليل الذي تبين به للمشاور، وهم إذا اختلفوا لم يعلم بماذا يأخذ بخلافه إذا كان فقيهاً فإنه وإن أمر بالمشورة، لكن إذا اختلفوا عليه اجتهد في اختلافهم وترقى أحسن أقاويلهم، وأمعن النظر في دلائلهم والله أعلم. ابن محرز: إن حكم بالظن والتخمين من غير قصد إلى الاجتهاد في الأدلة فذلك باطل لأن الحكم بالتخمين فسق وظلم وخلاف الحق، ويفسخ هذا الحكم هو وغيره إذا ثبت عند الغير أنه على هذا حكم. اهـ.
وفي أقضية البرزلي: لا خلاف أن الحكم بالحزر والتخمين لا يجوز. قال شيخنا الإمام: وكثيراً ما رأيت بعضهم يحكم في النازلة وهو لا يستند لنقل يذكره لما استقرى من حاله إذا روجع في بعض أحكامه لا يستند لنقل ولا قياس. اهـ.
على نقل البرزلي، وهذا كثير في بعض قضاة الكور. ابن الحاجب: وهو جور وفسق وإن صادف الحق فالمشهور فسخه وإن لم يصادفه فالإجماع على فسخه وإغرام ما أتلفه بحكمه. اهـ.
وهذا في المقلد إذ الجاهل لا يعرف الأدلة فضلاً عن القصد إليها.
(والورع) وهو ترك الشبهات والتوقف في الأمور والتثبت فيها (مع) متعلق بقوله: يستحب و(كونه) مضاف إليه (الحديث) مفعول مقدم و(للفقه) يتعلق بقوله: (جمع) أي يستحب فيه العلم مع كونه جمع الحديث أي مدارك أحكامه للفقه بأن لا يكون صاحب حديث لا فقه عنده ولا صاحب فقه لا حديث عنده. قال أبو بكر الطرطوشي: وجمهور المقلدين في هذا الزمان لا تجد عندهم من الآثار كبير شيء، وإنما مصحفهم مذهب إمامهم، وإنما استحب في المقلد ما ذكره الناظم لأنه يجب عليه أن لا يخرج عن مشهور قول مقلده بالفتح، ولا يجوز له عند عدم وقوفه على ما شهره الشيوخ من الروايتين أو القولين أن يحكم بما شاء منهما بغير نظر في الترجيح فإن ذلك جهل كما مرّ عند ابن محرز ولا يتأتى له النظر إلا بالجمع بين ما ذكر فإن نظر ولم يظهر له دليل الترجيح أو لم يكن من أهله فقول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها رواه عنه ابن القاسم أو غيره لأنه الإمام الأعظم. وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها وعلى رواية غيره في غير ما عن الإمام، وقول غيره فيها مقدم على قول ابن القاسم في غيرها وذلك لصحتها، فإن فقد ذلك فليفزع في الترجيح إلى صفاتهم فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم، فإذا اختص واحد منهم بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة، فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم، وكذا لو وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما، والترجيح بالصفة جار في المذاهب الأربعة، ومنه تقديم ابن رشد على ابن يونس وابن يونس على اللخمي قاله المشذالي. وهذا فيما عدا ما نبه الشيوخ على ضعف كلام ابن رشد فيه، ولذا اقتصر (خ) في عدة مواضع على كلام اللخمي دون ابن رشد مع علمه به ونقله له في ضيح، وهذا كله في قوليهما من عند أنفسهما لا في نقليهما عن المذهب فإنهما متساويان كما في الزرقاني عند قوله في الزكاة: كالثمر نوعاً أو نوعين. وتأمله فإنه لم يظهر لي وجهه لأنه إذا قدم ابن رشد لشدة حفظه وقوة فهمه فلا فرق بين ما قالاه عن أنفسهما أو نقلاه عن غيرهما، إذ العلة التي هي شدة الحفظ والفهم والتثبت موجودة في الجميع ولم أقف على التفصيل المذكور لغيره والله أعلم. فإن تساوى القولان عنده من كل وجه وعجز عن الترجيح بشيء مما ذكر وغيره؛ فليحكم بأيهما شاء ولا يجوز له ولا للمفتي أن يتساهل في الحكم أو الفتوى بأن يسرع في الحكم أو الفتوى قبل استيفاء حقهما من النظر والفكر، أو تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحِيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه من الجبابرة والقرابة ونحوهما. أو التغليظ على من يروم ضره ومن فعل مثل هذا وعرف به فلا يجوز أن يستفتي، وقد هان عليه دينه نسأل الله تعالى العفو والعافية.
ثُمَّ إن المشهور ما قوي دليله وقيل ما كثر قائله، والصحيح الأول ومقابل المشهور شاذ ومقابل الأشهر مشهور دونه في الشهرة قاله في ضيح، ابن خويز منداد: مسائل المذهب تدل على أن المشهور ما قوي دليله وأن مالكاً رحمه الله كان يراعي من الخلاف ما قوي دليله لا ما كثر قائله. ابن رشد: ويعكر على الأول أن الأشياخ ربما ذكروا في قول إنه المشهور ويقولون في مقابله إنه الصحيح. اهـ.
ابن فرحون: لا إشكال في هذا لأن المشهور هو مذهب المدونة، وقد يعضد الآخر حديث صحيح، وربما رواه مالك ولا يقول به لعارض قام عنده لا يتحققه هذا المقلد ولا يظهر له وجه العدول عنه فيقول: والصحيح كذا لقيام الدليل وصحة الحديث. اهـ.
قلت: فيفهم من هذا الكلام أن المقلد لا يعدل عن المشهور وإن صح مقابله وأنه لا يطرح نص إمامه للحديث وإن قال إمامه وغيره بصحته، وقد صرح بذلك ابن الصلاح وغيره وذلك لأنه لا يلزم من عدم اطلاع المقلد على المعارض انتفاؤه، فالإمام قد يترك الأخذ به مع صحته عنده لمانع اطلع عليه وخفي على غيره، فليس مراد الناظم بقوله: مع كونه الحديث الخ، أنه يعمل بما صح من الحديث المعارض لنص إمامه بل ليتأتى له الترجيح عند عدم الوقوف عليه كما مرّ. القرافي: إذا كان الإمام مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحاً عنده مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي قلده، وأما اتباع الهوى في الحكم والفتوى فحرام إجماعاً. اهـ.
فجعل حكم المجتهد بغير الراجح عنده، والمقلد بغير المشهور وإن ترجح عنده بقيام دليل من صحة حديث ونحوه من اتباع الهوى وأنه حرام، وذلك يدل على وجوب نقضه. ولذا قال ناظم العمل:
حكم قضاة الوقت بالشذوذ ** ينقض لا يتم بالنفوذ

ومن عوام لا تجز ما وافقا ** قولاً فلا اختيار منهم مطلقا

ومراده بالشاذ ما قابل المشهور أو الراجح كما مرّ ومراده بالعوام المقلدون أي لا تجز أحكامهم بغير المشهور، وإن وافقت بعض الأقوال لأن أحكامهم لا ترفع الخلاف واختياراتهم لمقابل المشهور لا تعتبر، ونص في إقرارات المعيار على أن الفتوى بغير المشهور توجب عقوبة المفتي وكذا الجاهل بعد التقدم إليه. اهـ.
وهذا ما لم يجر العمل بالشاذ، وإلا فيقدم على المشهور بعد أن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل أن العمل جرى به غير ما مرة من العلماء المقتدى بهم قاله ميارة في شرح اللامية قال: ولا يثبت العمل المذكور بقول عوام العدول ممن لا خبرة له بمعنى لفظ المشهور أو الشاذ فضلاً عن غيره جرى العمل بكذا، فإذا سألته عمن أفتى به أو حكم به من العلماء توقف وتزلزل، فإن مثل هذا لا يثبت به مطلق الخبر فضلاً عن حكم شرعي. اهـ.
ثُمَّ إن العمل الجاري ببلد لأجل عرفها الخاص لا يعم سائر البلدان بل يقصر على ذلك العرف في أي بلد وجد لأن مبناه عليه. فإن قيل: جرى العمل بأن النحاس مثلاً يحكم به للنساء عند اختلافهن مع الأزواج لأن عرف البلد أنه من متاعهن لم يعم البلد الذي لا عرف لهم بذلك، وإذا تغير العرف في ذلك البلد في بعض الأزمان سقط العمل المذكور ووجب الرجوع للمشهور، وهذا في العرف الذي تنبني عليه الأحكام وهو ما لم يخرج عن أصول الشريعة وإلاَّ فلا عبرة به، وأما العمل الجاري لمصلحة عامة أو سبب كذلك المشار له في اللامية بقوله: لما قد فشا من قبح حال وحيلة. إلخ.
فظاهر عمومه ما دامت تلك المصلحة وذلك السبب وإلاَّ وجب الرجوع للمشهور، وهذا هو الظاهر قاله المسناوي أي وذلك كما قالوا في الراعي المشترك، وقد يعبرون بالعمل عما حكمت به الأئمة لرجحانه عندهم لا لعرف ولا لمصلحة، ومنه قول (خ) وهل يراعى حيث المدعى عليه وبه عمل وفيها الإطلاق وعمل به، وهو كثير في هذا النظم وغيره. انظر مصطفى آخر باب القضاء، وانظر أوائل شرح نظم العمل المطلق، ثُمَّ هذا العمل الذي يعبرون به عن الراجح يجب أن يستمر على حاله، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت عن قضاة العدل وأهل الفتوى من ذوي العلم المقتدى بهم أنهم رجعوا عنه وعملوا بخلافه لمصلحة أو ظهور دليل قوي ونحو ذلك كما قالوا: إن العمل كان قديماً بقول ابن القاسم باعتبار الحال في المحجور دون الولاية حكاه ابن أبي زمنين، ثُمَّ جرى العمل بقول مالك باعتبار الولاية، ثُمَّ جرى في المائة التاسعة بقول ابن القاسم، ولا زال العمل به إلى الآن كما يأتي في الحجر، وهذا كثير أيضاً يجري العمل قديماً بشيء ثُمَّ يجري العمل بخلافه. وبالجملة؛ فالعمل الذي بمعنى الراجح هو الكثير في هذا النظم وغيره، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت العدول عنه ممن يعتد به من قضاة العدل وأهل الفتوى وعمل فاس ونواحيها تابع لعمل الأندلس لا لعمل أهل تونس كما يأتي، فإن لم يجد المقلد نصاً لإمامه ولا لأصحابه في عين النازلة فهي معرضة للاجتهاد، لكن لا يجتهد فيها إلا من فيه أهلية. القرافي: المقلد إن كان محيطاً بقواعد إمامه جاز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفارق ومع إمكانه يمتنع وإن لم يحط بقواعد إمامه فيمتنع، وإن عدم الفارق لاحتمال لو اطلع على قواعد إمامه لأوجب له الفارق. اهـ.
ولا يرد على هذا قوله (صلى الله عليه وسلم): (من اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد). لأنه خاص كما في المقدمات بمن فيه أهلية قال: وإلاَّ فلا أجر له إن أخطأ بل هو آثم، وإن أصاب لتقحمه وجرأته على الله تعالى في الحكم بغير علم. اهـ.
وقال في أجوبته: سئل القاضي العارف بمذهب مالك ولم يبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول فيما مرّ بين يديه من النوازل التي لا نص فيها أن لا يقضي فيها إلا بفتوى من يعرف وجه القياس إن وجده وإلاَّ طلبه في غير بلده فإن قضى فيها برأيه كان حكمه موقوفاً على النظر. اهـ.
وكلامه صريح في وجوب المشورة لغيره حينئذ، بل ورد في كلامهم ما يدل على وجوب المشورة وإن اطلع على نص لأن تطبيق النازلة على النص عسير، ألا ترى كيف غفل أسد بن الفرات فأفتى الأمير بجواز دخوله الحمام مع جواريه دون ساتر، وأفتاه غيره بالمنع لأن نظر بعضهن إلى بعض لا يجوز، ولهذا تجد الأئمة يخطئ بعضهم بعضاً في الفتاوى والأحكام. خليل: وأحضر العلماء أو شاورهم إلخ.
ابن فرحون: إطلاقهم المشورة ظاهره كان عالماً بالحكم أو جاهلاً. اهـ.
وانظر الحطاب فإن لم يتبين له وجه الحكم بعد المشورة فسيأتي في قوله:
وليس بالجائز للقاضي إذا ** لم يبد وجه الحكم أن ينفذا

والصح يستدعي له إن أشكلا

الخ.
ومما يستحب فيه كونه غنياً حليماً نزيهاً نسيباً خالياً عن بطانة السوء ليس بمحدود ولا زائد في الدهاء كما في خليل، وزاد غيره كونه بلدياً ليعرف المقبولين والمسخوطين من الشهود، وقيل: يرجح غير البلدي لأنه يقل حاسدوه.
وَحَيْثُ لاَقَ لِلْقَضَاءِ يَعْقُدُ ** وَفِي الْبِلاَدِ يُسْتَحِبُّ الْمَسْجِدُ

(وحيث) ظرف ليقعد (لاق) صلح (للقضاء) يتعلق بقبوله (يقعد) أيضاً. وظاهره كان ببادية أو حاضرة، وهو كذلك لكن يستحب في الحاضرة المسجد كما سيأتي، وظاهره يقعد حيث لاق ولو بداره. وبه قال أشهب وعليه يأتي قول ابن شعبان من العدل كون القاضي بوسط مصره، ولابن المناصف أن عمر بن الخطاب أنكر ذلك على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وأمر بإحراق داره عليه فدعا واستقال فلم يعد إلى ذلك قال: فإن دعته ضرورة إلى ذلك فليفتح أبوابها ويجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة لذلك.
(وفي البلاد) أي الحاضرة (يستحب المسجد) أي رحابه فهو على حذف مضاف أي يستحب له القعود برحاب المسجد الخارجة عنه ليصل إليه الكافر والحائض والجنب والضعيف والسلامة من امتهانه بكثرة اللجاج ودخول بعض العوام وبرجله بلل وغير ذلك، وما قررناه به هو الذي في الواضحة واختاره المتأخرون فقال في المدونة: القضاء في المسجد من الأمر القديم وهو ظاهر النظم إلا أنه لا يحمل عليه لما تقدم على أن ما في المدونة يمكن تأويله بما ذكر أي القضاء في رحاب المسجد الخارجة عنه من الأمر القديم فيكون وفاقاً لما في الواضحة والله أعلم. ويستحب أن يجلس مستقبل القبلة وأن يكون متربعاً أو محتبياً، فإن لم يجلس وحكم في حال مشيه أو جلس متكئاً فهو قول خليل، وفي كراهة حكمه في مشيه أو متكئاً أو إلزام يهودي حكماً بسبته وتحدثه بمجلسه لضجر قولان: وينبغي أن يجلس للحكم في أوقات معلومة وليس عليه أن يستغرق النهار كله، ولا ينبغي أن يحكم مع ما يدهشه عن تمام فكر من جوع وعطش مفرطين وغضب وأكل فوق الكفاية (خ): ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر ومضى أن وقع ولا بأس أن يرفع صوته فيمن يستأهل ذلك من الخصمين وأن يحد بصره ويحتج لمن ضعف عن حجته، ولا يجلس في كثرة المطر والوحل ولا بعد الصبح ولا بين صلاتي الظهر والعصر ولا بين العشاءين ولا في عيد ولا يوم قدوم حاج أو خروجه (خ) وجلس به أي برحاب المسجد أي بغير عيد وقدوم حاج وخروجه ومطر أو نحوه، ولم يشتر بمجلس قضائه كسلف وقراض وأبضاع وحضور وليمة إلا لنكاح وقبول هدية ولو كافأ عليها إلا من قريب وندب اتخاذ من يخبره بما يقال في سيرته وشهوده إلخ.
فقوله: وقبول هدية أي والمفتي كالقاضي في ذلك فلا يحل له أخذها ممن يرجو أن يعينه في حجة أو في خصومة عند حاكم يسمع منه ويقف عند قوله لأن قول الحق واجب عليه، وقد قال عليه السلام: (من شفع لأخيه شفاعة وأهدى إليه هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا). ومن هذا انقطاع الرعية إلى العلماء المتعلقين بالسلاطين ليرفع الظلم عنهم فيهدون لهم ويكرمونهم فذلك باب من أبواب الرشوة، لأن رفع الظلم واجب على كل من قدر عليه عن أخيه المسلم. وقوله: ولم يشتر إلخ.
قال في مختصر الواضحة: إذا اشترى الإمام العدل من رجل أو باع ثُمَّ عزل أو مات خير البائع منه أو المشتري في الأخذ أو الترك، نقله ابن فرحون في تبصرته في الفصل الثاني، فقف على هذا الفصل فيه ترى العجب في الآداب اللازمة له.